الكوسة النووية

الثلاثاء، ٢٣ مارس ٢٠١٠ بواسطة كريم

حقائق حول الخيار النووي المصري لتوليد الكهرباء
إعداد: د. محمد أشرف البيومي/أستاذ كيمياء طبيعية جامعة الإسكندرية وجامعة ولاية ميتشجان (سابقا)
برز موضوع المفاعلات النووية على الساحة المصرية فجأة في صورة مقالات متعددة بصحيفة "الأهرام" (شهري يونيه ويوليه)، ثم بإعلان رئيس لجنة السياسات للحزب الحاكم ما وصفه الإعلام المصري بدخول مصر العصر النووي، وفي الأسابيع الماضية تعددت المقالات في هذا الشأن من كل حدب وصوب والتي اتسمت في كثير من الأحيان بالتناقض الصارخ مع الحقائق وخلط الأمور وأحيانا بمقولات لا يمكن وصفها إلا بأنها ليست علمية بل مضادة للعلمية ونقيض لها، فذكر أحد الكتاب المعروفين أن درجة أمان المفاعلات النووية وصل لأكثر من مائة في المائة!! كما قال متخصصون في المجال النووي أن تشغيل مفاعل نووي مثل قيادة طائرة في درجة الصعوبة، وأن المتخصصين المصريين على مستويات عالمية بل يفوقونها، وأن الضبعة هي المكان الوحيد (لاحظ كلمة الوحيد) الصالح لإقامة مفاعل نووي في مصر، بينما قال أحد الصحفيين أن هناك أماكن كثيرة منها خليج العقبة بالقرب من حدود الكيان الصهيوني "إسرائيل" مما يذكرنا بالمشاريع النووية المشتركة لتوليد الكهرباء بين مصر و"إسرائيل" والتي برزت في الحقبة الساداتية، كما قيل تلميحا أو تصريحا بأننا بصدد الحصول على قنبلة نووية وأننا في حاجة ملحة للطاقة دون تحديد لخطة التنمية الطموحة التي تحتاجها هذه الطاقة.
ليس غريباً إذاً هذه الحيرة الشديدة التي تغلب على المواطنين لمعرفة ما نحن بصدده، فهل نحن نتحدث عن السعي لاقتناء عدد من المفاعلات النووية لتوليد الطاقة الكهربائية (على طريقة "تسليم المفتاح") لسد حاجتنا من الطاقة مستقبلا؟ أم نتحدث عن التخطيط من أجل مشاركة مصرية جادة ومستقلة بدرجة ما في مجال التكنولوجيا النووية بهدف الاستخدام السلمي للطاقة؟ أم نتحدث عن تصنيع سلاح نووي يكون رادعا للترسانة النووية "الإسرائيلية" القابعة على حدودنا والتي تهدد مدننا المصرية ومدن عربية وإسلامية عديدة، وهذا ما يتوق إليه الشعب المصري وبقية الشعوب العربية بهدف استكمال وحماية سيادتنا الوطنية. وينبثق عن كل من هذه التساؤلات الثلاث عدد من الأسئلة المنطقية والضرورية لتوضيح الأمر وبلورة الرأي بالتأييد أو الرفض، التخوف أم الاطمئنان. أما خلط الأمور عمدا أو عن قصور في المعرفة، والمبالغة في درجة أمان المفاعلات والقدرات المصرية الحالية، فهو يؤدي وبكل تأكيد إلى استنتاجات خاطئة، كما يفصح عن مستوى عال من اللامسئولية والاستهتار بمستقبل الأمة.
إن المفاعلات النووية التي يجري الحديث عنها هي مفاعلات مقبولة "إسرائيليا" وأمريكيا كما هو واضح من التصريحات "الإسرائيلية" والأمريكية نفسها المبارِكة بل والمشجعة لامتلاك مصر لهذه المفاعلات. فليس من المنطق أن يتصور عاقل أن النظام الحاكم بمصر الغارق في تبعية سياسية واقتصادية وعسكرية تتعمق يوما بعد يوم (اتفاقية الكويز، المناورات العسكرية المشتركة، دعم السياسات الأمريكية وتقديم التسهيلات...الخ) لديه مشروعا للحصول على سلاح نووي، أو أن أمريكا يمكن أن تساعدنا على ذلك!! ثم أن الدولة التي لديها خطة جادة في هذا السبيل لا تعلن ذلك فجأة على الملأ في مؤتمر لحزبها الحاكم، إذاً نستطيع بثقة كبيرة أن نقول أن مجرد التنويه عن سلاح نووي في معرض تبرير المفاعلات النووية التي يتحدث عنها الحزب الحاكم هو خداع سياسي للجماهير ولعب بمشاعر الشعب التواق لحماية أمنه القومي.
وفي هذا الصدد يجب أن تؤكد اللجنة المصرية لمناهضة الاستعمار والصهيونية اعتقادها الثابت أن حصول مصر على سلاح نووي هو واجب قومي لا خيار لنا فيه في وجود ترسانة نووية "إسرائيلية"، ولكن هذا يستحيل تحقيقه في إطار سلطة تتبع وتشارك الولايات المتحدة في مخططاتها الاستراتيجية. إن الموقف المبدئي الذي يجب أن نسعى إليه دائما رغم أنه بعيد المنال في المنظور القريب هو تخليص العالم كله أو حتى منطقتنا من أي سلاح نووي، ولكن لا يصح مطلقا أن تكون هذه الآمال الإنسانية حائلا دون تحقيق هدفنا الإستراتيجي بتوفير الردع للسلاح النووي الصهيوني.
أما اقتناء التكنولوجيا النووية المتعلقة بمفاعلات نووية لتوليد الطاقة، وهو من حقنا حسب الاتفاقات الدولية، فإن قوى الهيمنة العالمية وحليفها الكيان الصهيوني تعارض ذلك بشدة حتى تستمر في احتكارها للسلاح والتكنولوجيا النووية. وأمامنا مثال حي على ذلك وهو حالة إيران التي تواجه تهديدات صريحة لأنها تقوم بتخصيب اليورانيوم أحد الخطوات اللازمة للحصول على وقود نووي، من الواضح أن إنشاء مفاعلات نووية تمكننا ولو تدريجيا من اكتساب التكنولوجيا النووية وإدارة هذه المفاعلات بشكل مستقل بما في ذلك دورة الوقود النووي ليس واردا على الإطلاق لأن هذا يتطلب درجة عالية من الاستقلال السياسي غير المتوفر الآن بمصر.
بالتحديد ما هو مطروح علينا فعلا هو اقتناء عدد من المفاعلات النووية لتوليد الكهرباء بإشراف وسيطرة أمريكية أو أوروبية أو كلاهما، في إطار التبعية التكنولوجية والسياسية والعسكرية للنظام الحاكم وفي ظل مناخ الفساد العام وسوء الإدارة والإهمال السائد. إذاً فالمفاعلات النووية المسموح بها أمريكيا ستكون تحت إمرة أمريكا المباشرة أو الغير مباشرة وبشروطها وإشرافها، تمنع الوقود وتمنحه عندما تشاء وتفرض ما تريد من اتفاقات سرية وعلنية وبروتوكولات تمنحها حق التفتيش المفاجئ وتعطيها المزيد من فرص الابتزاز، وبذلك ستكون هذه المفاعلات في وضعنا السياسي الحالي عبئا إضافيا على متطلبات الأمن القومي، وعاملا خطيرا لمزيد من التبعية بالإضافة إلى كونها مصدرا جديداْ لمخاطر الحوادث وربما الكوارث الناجمة من الإهمال والفساد.
وقد يعتقد البعض أن الحصول على هذه المفاعلات من الصين أو روسيا يخرج المشروع من إطار التبعية. ولكن النظرة الشاملة تشير إلى أن مخاطر المزيد من التبعية في اقتناء مفاعلات نووية بمصر لن تقل كثيراً في حالة كون المصدر روسياً أو صينياً، مادامت هذه المفاعلات "تسليم مفتاح" والمساهمة التكنولوجية المحلية ضعيفة أو معدومة وما دام الوقود النووي لا يصنع وطنياً. ومما يقوي من احتمال أن يكون دور الصين أو روسيا في حالة قيام أحدهما بتوريد هذه المفاعلات وبالشروط السابقة هو دور الوسيط أن هناك موافقة أمريكية و"إسرائيلية" مسبقة على اقتناء مصر هذه المفاعلات. ونود أن نذكر بأن الصناعة النووية الأمريكية تسعي لتقليل نفقات إنشاء المفاعلات مما يجعل الصين بالذات وسيطاً مناسباً.
ورغم كل ذلك فالموضوع المحوري في كل الحالات هو مدي احتياجنا الفعلي من الطاقة وأولويات التنمية المتطلبة لهذه الطاقة. وهل الخيار النووي الذي يهدف إلي توليد الطاقة الكهربائية فقط هو الخيار الأفضل أو الوحيد اقتصاديا وأمنيا واستراتيجيا؟ وإذا كان الخيار النووي هو الأفضل فهل يظل الخيار الرشيد في ظل التبعية؟
نطرح بعض التساؤلات الهامة والمشروعة والتي لا بد من الاستعانة بالإجابات الموضوعية عليها للوصول إلي القرار الصحيح، كما نسوق بعض الملاحظات المقتضبة والمعتمدة علي مصادر وخبرات أمريكية وأوروبية، بالإضافة إلى ممارستنا المحلية.
حول الطاقة المتاحة:
كيف نستخدم الطاقة المتاحة الآن؟ لماذا نبيع البترول والغاز الطبيعي "لإسرائيل" ولغيرها؟ لماذا نصدر الطاقة بشكل مباشر وغير مباشر كمنتجات تتطلب طاقة عالية؟ ما هي بدائل الطاقة المتاحة خصوصا وأننا محاطون بأكبر البحيرات البترولية في العالم؟ وماذا عن ترشيد الاستهلاك، ألا يعتبر ذلك نفسه في ظل الإهدار القائم مصدرا هاما من مصادر الطاقة؟ وما هو مدى استخدام الطاقة الشمسية للتسخين المباشر المنزلي في بلاد أخرى، في قبرص على سبيل المثال؟ وما الذي يوفره ذلك من الغاز الطبيعي المستهلك في المنازل في الواقع المصري؟
تعتبر اللجنة أن الثروة البترولية والغاز الطبيعي لا تستخدم بشكل جيد، فالاستخدام الجيد يتطلب شبكة من الصناعات تحول براميل البترول والأمتار المكعبة من الغاز الطبيعي إلى جرامات من الكيمائيات والأدوية تدر عائدا عظيما وتستخدم الآلاف من الجامعيين والفنيين، وتؤدي إلى خبرات هائلة. كذلك نرى أن الطاقة الشمسية المباشرة تمكنا من توفير جزءا من الغاز الطبيعي المستهلك في تسخين المياه بالمنازل.
حول احتياجات التنمية
ما هي خطة التنمية خصوصا في المجالات الحيوية وبالذات في التصنيع؟ وما الذي تم إنجازه من تنمية في عصر التبعية والانفتاح؟ إنه من العبث الحديث عن احتياجات طاقة دون خطة تنمية تحوز تأييد الشعب وتحفزه على المشاركة.
تكاليف الكهرباء المنتجة نوويا
وما هي التكاليف الحقيقية لإنشاء وتشغيل المفاعلات؟ فكيف نقارن سعر الكيلو وات كهرباء منتجة نوويا دون حساب تكاليف الإنشاء الباهظة وتكاليف خدمة القروض وتكاليف التخلص من النفايات والبنية التحتية المصاحبة للمفاعلات، خصوصا في بلد بنيته ضعيفة، وتكاليف إجراءات الأمن والأمان وتكاليف التخلص من المفاعل بعد انتهاء عمره الافتراضي؟ وهل أخذنا في حسابنا الأعباء المالية للدفاع عن المفاعلات أمام خطر تدمير عسكري؟
يتصف موضوع تكاليف الطاقة الكهربائية المولدة نوويا بكثير من التشويش خصوصا ما إذا كانت الطاقة النووية هي حقا مصدرا رخيصا للكهرباء، يرجع هذا إلى عدة عوامل أهمها: الخلط بين التكاليف الجارية، وهي منخفضة بالنسبة للمصادر النووية، وبين التكاليف الكلية والتي تشمل تكاليف الإنشاء وهي أعلى كثيرا. وكذلك من عوامل التشوش في موضوع تكاليف الطاقة الكهربائية المولدة نوويا الافتراضات التي تعتمد عليها الدراسات المختلفة (كفاءة المفاعل، عمره الافتراضي، كلفة رأس المال، سعر الوقود،..الخ) في تقدير هذه التكاليف خصوصا ما إذا كانت هناك عناصر خفية مثل دعم مالي حكومي، وطبيعة الهيئة التي تقوم بالدراسة. فهناك دراسات أكاديمية أصدرتها جامعات أمريكية (منها دراسة جامعة شيكاغو عام 2003 ودراسة معهد ماساشوستس التكنولوجي MIT في نفس العام، ودراسة جامعة جرينتش البريطانية، U of Greenwich عام 2005)، هذه الدراسات تتميز بقدر عال من الموضوعية. وهناك في المقابل مؤسسات منحازة تمولها بسخاء الصناعة النووية في وقت تمر فيه بأزمة حقيقية يتنبأ بعض الاقتصاديين أنه من العسير أن تجتازها. تتسم هذه الدراسات بالمغالطات الهائلة وتكون أقرب للعمل الدعائي. كما أنها تنتقي بيانات وتعتمد على افتراضات غير عملية مثل قيمة تكاليف الإنشاء المستقبلية ورأس المال والوقت اللازم لإكمال المفاعل، هذا يفسر الأرقام المتباينة بالنسبة لاقتصاديات المفاعلات النووية وقدرتها على التنافس مع مصادر الطاقة الكهربائية التقليدية، ولقد اتسمت صناعة المفاعلات النووية بالتأخير الكبير في إكمال المنشآت وتضاعف التكاليف، كذلك هناك تباينات كبيرة في التكاليف بين دولة وأخرى.
استنتجت الدراسات الأكاديمية الحديثة المذكورة سابقا أن تكلفة الكيلو وات-ساعة المنتجة نوويا لا زالت تفوق نظيرتها المنتجة بالغاز أو الفحم عندما تكون المقارنة تحت نفس الشروط وتشمل كافة التكاليف، تتفق هذه الدراسات أيضا على أن الإنتاج النووي للكهرباء يحتاج إلى خفض تكاليف الإنشاء وفرض ضرائب أو دعم حكومي حتى يستطيع المنافسة الاقتصادية مع الغاز وخصوصا مع الفحم. إن الزعم الذي يتردد على لسان بعض المسئولين والإعلاميين المصريين بأن سعر الكهرباء المنتجة نوويا هي ثلث مثيلها المنتج بالغاز والفحم هو نفسه ما تردده الصناعة النووية، هذه المقارنة لا تعني شيئا لأنها لا تشمل التكاليف الباهظة للإنشاء ورأس المال، وهي من قبيل المغالطة الصارخة، وكما جاء على لسان بروفسور جوسكو أستاذ الاقتصاد والمشارك في دراسة معهد ماساشوتس التكنولوجي في يوليه الماضي "إن الطاقة النووية متنافسة (مع المصادر التقليدية) فقط في حالات معينة، في حالة ما إذا انخفضت تكاليف الإنشاء بدرجة هائلة، وفي حالة أخرى هي فرض ضريبة على محطات الفحم والغاز لانبعاث الكربون منها" (غاز ثاني أكسيد الكربون هو من الغازات التي تسبب الاحتباس الحراري في الجو). يجب التنويه بأن صناعة المفاعلات النووية هي في سباق مع الزمن حتى تستمر، وكما يقول جوسكو هي الآن في حالة احتضار إلا إذا جاءت عقود إنشاء كثيرة، ومن هنا نفهم أحد أسباب دفع "دول العالم الثالث" لشراء مفاعلات نووية والدعاية الكبرى للصناعة النووية.
حول استخدام الطاقة النووية عالميا
ما هو مدى استخدام الطاقة النووية في العالم وعدد المفاعلات القائمة ودرجة تشغيلها؟ ما هي مصادر الطاقة في البلدان المختلفة؟ وما هي مصادر الطاقة مستقبليا وتكاليفها؟
تتفاوت دول أوروبا والولايات المتحدة في اعتمادها على الطاقة النووية وذلك لأسباب استراتيجية واقتصادية والبعض يرفض المفاعلات النووية، ومن الدول الصناعية الكبرى التي تعتمد على الطاقة النووية بشكل كبير فرنسا (79 في المائة). يجدر بالإشارة أن مصادر الطاقة الكهربائية عالميا حسب إحصائيات 2006 هي: 39 % الفحم، 19% الكهرومائية، 16% نووية، 15 % الغاز، 10% من البترول.
هناك دول توقفت عن إنشاء مفاعلات نووية وبدأت في الإغلاق التدريجي لمفاعلاتها القائمة وهي: بلجيكا، ألمانيا، أسبانيا، أيرلندا، السويد وهولندا. وهناك دول لم يكن لديها أي مفاعلات أو استغنت عنها فعلا وهي: النمسا، الدانمارك، اليونان، لوكسمبورج، إيطاليا والبرتغال. تبقى بريطانيا وفنلندا وفرنسا التي لازالت تستثمر في المفاعلات نووية، مع العلم أن الصناعة النووية ببريطانيا تواجه مشاكل اقتصادية كبيرة كما تواجه هي وفرنسا وبقية أوروبا معارضة شعبية واسعة (التقرير الأخير 2006 للمؤسسة النووية العالمية حول المفاعلات النووية في العالم)، ليس من المستغرب إذاً أن نشهد ضغوطا سياسية واقتصادية تمارس بالفعل على دول نامية لشراء العديد من المفاعلات النووية لإنقاذ الصناعة النووية ولجعل هذه الدول أسيرة الاعتماد على الوقود النووي الأمريكي والأوروبي.
هل هناك حوادث رغم تحسين التصميمات والرقابة الصارمة؟ هل هناك معارضة شعبية في الوقت الراهن في أوروبا واليابان والولايات المتحدة، وما أسبابها؟ ما هي طبيعة وعدد الحوادث التي وقعت في الماضي القريب والبعيد؟
من الخطأ الشائع والمقصود غالباً حصر الخسائر البشرية الناجمة عن الحوادث في المفاعلات النووية بعدد الموتى فقط. فالإشعاعات الناجمة من الحوادث الكبرى شرنوبل و(ثري مايل آيلاند) تسببت في رفع نسبة (السيزيوم) المشع في أسنان الأطفال، ولا شك أن هذا وراء ارتفاع نسبة السرطان. إن الحوادث الكارثية نادرة ولكن الحوادث الأخرى متعددة خصوصا تلك التي تؤدي لانبعاث غازات أو مياه مشعة. والحديث عن الأمان المطلق يعكس عدم معرفة أو عدم مسئولية أو عدم اكتراث. بالطبع ليس هناك مستوى أمان يصل إلى المائة في المائة، فالعلميون يدركون تماما أن احتمال وقوع حادث يستحيل أن يصل للصفر بل أن هذا ليس هو هدف الهيئة المنظمة للنشاط النووي:Nuclear Regulatory Commission (NRC) بالولايات المتحدة إنما هو تحقيق "تأكيدات معقولة بالحماية الكافية"، أما الحديث عن ارتفاع الأمان بالنسبة للمفاعلات المصممة حديثا فهذا صحيح نظريا ولكن لم يثبت عمليا بعد.
تختلف أسباب الحوادث، فمنها نقصان في المبرد، وفقد مصادر مشعة، وتأثير الحرارة والإشعاع الناتج من النشاط النووي، ومنها ما هو متعلق بنقل الأجهزة والخطأ البشري وإخفاق الأجهزة الإلكترونية والميكانيكية وغيرها. ونسوق أربعة أمثلة فقط لهذه الحوادث وقعت بين سنتي 2002 و2006 وهي مدرجة في وثائق ال NRC الأمريكية:
ففي 6 مارس 2002 بمفاعل (دافيس-بيسي) بأوهايو، نخرت المياه التي بها بورات Borate جدار الصلب السميك والذي يحوي 80 ألف جالون من مياه مشعة تحت ضغط عالي. كان هناك تلفيق من قبل أحد المهندسين العاملين بالسجلات.
وفي 20 فبراير 2006 بالقرب من شيكاغو بمفاعل (لاسال) نجمت حالة طوارئ أثناء إغلاق المفاعل لوضع وقود جديد (عملية تجري كل عامين تقريبا)، فقد تبين أن قضبان التحكم الـ 185 لم تدخل بالكامل مما شكل خطورة كبيرة، لكنه لم يحدث تسرب إشعاعي في هذه الحالة.
وفي 25 يوليه الماضي بمفاعل (فورسمارك) بالسويد أدى انقطاع كهربائي إلى إغلاق المفاعل، وكان المفاعل بعد دقائق على وشك الانصهار. هذا هو أسوأ حادث بالمفاعلات منذ شرنوبل.
وفي 9 أغسطس 2004 باليابان قتل وأصيب 11 عاملا بمفاعل (ميهاما) بالقرب من طوكيو نتيجة انفجار أنبوبة تبريد تحمل ماء ساخن، هذه الأنبوبة لم يتم الكشف الضروري عليها منذ إنشاء المفاعل في 1976،علما بأنه حدث تسرب 55 طنا من المياه المشعة في نفس المفاعل عام 1991. كما أغلق مؤقتا 17 مفاعلا في اليابان عندما اكتشفت تشققات في المفاعلات في الثمانينات والتسعينات.
لم نذكر حوادث وقعت في مصانع للوقود النووي، حيث أنه من المستبعد جدا أن نقوم في مصر بهذه العمليات في الظروف الحالية، مثل الحادث الخطير الذي وقع في المملكة المتحدة في 19 إبريل 2005.
ما هي المقاييس التي اتبعت لتحديد مواقع المفاعلات النووية؟ وهل حددت نهائيا هذه المواقع فعلا؟ وما مدى اتساق ذلك مع متطلبات العمران في المنطقة ومتطلبات الأمن القومي؟ ولماذا تكون الضبعة المكان الوحيد الصالح كما يقول أحد المسئولين النوويين؟ هل استوفت المواقع الشروط الأمنية الضرورية؟ هل هناك خطة لتفريغ المواطنين في زمن محدد في حالة وقوع حادث مثلا؟ هل هناك احتياطات لاحتمالات الزلازل؟ وهل اعترضت المؤسسة العسكرية قي السابق على موقع الضبعة كما ذكر محافظ للإسكندرية سابق؟
قيود مفروضة
ما هي الشروط المالية والأمنية والرقابية والقانونية والتفتيشية..الخ التي ستفرض علينا؟ ماذا سيكون الدور المصري في تشغيل المفاعل؟ كيف سنحمي المفاعلات من العدوان الخارجي؟ إن الإجابة علي هذه الأسئلة ضروري قبل بلورة رأي مسئول وبالتأكيد قبل اتخاذ القرار.
من غير الممكن أن نقيم مشروع المفاعلات النووية كجزئية منعزلة عن الواقع السياسي والاجتماعي في مصر، ومن العبث أن نتعامل معه وكأنه منفصل عما يدور في المنطقة، وما تخططه لنا الإدارة الأمريكية بكل صراحة ووضوح ونقصد هنا بالتحديد "المشروع الشرق أوسطي" والتي تحث إليه وتدفع به قوى الهيمنة الإمبريالية.
فمحليا نعاني من فساد غير مسبوق وسوء إدارة غير معهود وتسيب وإهمال فاق كل تصور وحوادث القطارات والعبارات والسفن مما لا يبشر بالخير. وبالرغم من قلة الحوادث النووية الكارثية مثل (ثري مايل أيلاند) في الولايات المتحدة وشرنوبل في الاتحاد السوفيتي إلا أن الحوادث التي تؤدي إلى تسرب غازات أو مياه مشعة متعددة، فما بالك في مصر حاليا. وهنا يجب التأكيد على أن هذا التخوف يعكس الواقع الحالي، ولا يعني بأي حال أن هذه هي قدراتنا الحقيقية، بدليل أننا لم نكن كذلك ولن نكون كذلك بمجرد أن يتغير الوضع القائم من ترهل وتسيب وعدم جدية إلى انضباط وشعور عال بالمسئولية ورغبة قوية في المساهمة شعبيا والعمل في إطار نهضة شاملة ومشروع تنمية طموحة.
أما إقليميا فلا يمكن أن نناقش الموضوع بعيدا عن الاستقطاب المفتعل الشيعي السني والتخوف من إيران كقوة إقليمية متمسكة بحقها في تخصيب اليورونيوم في إطار مشروعها النووي، ومن المدهش غياب هذا التخوف من الكيان الصهيوني الذي يمتلك بالفعل عدداً كبيراً من القنابل الذرية ويمارس فعلا سيطرة إقليمية، اللهم إلا من دعوات روتينية ودورية منادية بإخلاء المنطقة من أي سلاح نووي، يعلم من يطلقها قبل غيرهم عدم جدواها، وفي ظل الدعوات بمحور مصري سعودي أردني في مواجهة المد الإيراني في لبنان وسوريا بعد انتصار "حزب الله"، وهناك ما يدعونا إلى الاعتقاد بأن اقتناء مفاعلات نووية يرد إعلاميا بعض الاعتبار المفقود مصريا وعربيا، خصوصا إذا وظف الإعلام للإيحاء للجماهير بأن سلاحا نوويا في الطريق. وهناك معلومات عن تمويل سعودي للمشروع النووي المصري.
أما دوليا فأهداف القوى الإمبريالية معلنة ولا نحتاج إلى فكر تآمري لإدراكها، وهي وأد وتعطيل أي مشروع عربي مقاوم واتهامه بالإرهاب وبترديد شعارات القومية العربية التي "عفا عليها الزمن"، والعمل الحثيث علي تنفيذ "المشروع الشرق أوسطي الموسع" أو "الجديد" والذي تتضح معالمه منذ توقيع "معاهدة كامب دافيد" بدء بالتطبيع مع الكيان الصهيوني في مجال المؤتمرات العلمية المشتركة المقامة بمصر، إلى بيع البترول المفروض ببنود المعاهدة، إلى السكوت على الجرائم الصهيونية من تدمير المفاعل النووي العراقي وعلى اجتياح لبنان والقتل اليومي في فلسطين، وعلى انتهاك السيادة اللبنانية والسورية، والاغتيالات المستمرة للقيادات الفلسطينية، والصمت المطبق على قتل جنود مصريين على حدودنا العارية من دفاعات حقيقية، والسكوت المشين على الاعتداء الأخير على لبنان الذي اعتبره المحور"السني" الجديد المصري السعودي الأردني نتاج مغامرات غير مسئولة من قبل "حزب الله الشيعي". وهناك شبهة قوية بأن مشروع المفاعلات النووية المصرية هو جزء من "المشروع الشرق أوسطي" لإنتاج الكهرباء وتصديرها "لإسرائيل" وغيرها كجزء من دور مصر الوظيفي في المشروع.
إن عملية الوصول إلى قرار سواء على المستوى الفردي أو المؤسسي تنم عن هدف القرار الحقيقي وتعكس بوضوح طبيعة هذا الفرد أو المؤسسة: مدى الجدية والمسؤولية، درجة المشاركة الحقيقية للذين يمسهم القرار، المستوى المعرفي والإلمام بجوانب الموضوع المتعددة، ومدى الاستقلالية وتأثير عناصر غير موضوعية علنية أو خفية في اتخاذ القرار. كما أن التأييد العام المستند إلى مناقشات واسعة ضروري إذا كنا نؤمن بالديمقراطية الحقة، إن اتخاذ قرار ثم إدارة حملة إعلامية لتبرير القرار من قبل جوقة من المستعدين دائما لتبرير أي قرار ولأي نظام، هو خير طريقة لتعظيم الوقوع في الخطأ، خصوصا إذا اتهم من يختلف مع القرار بالتشكيك بدلاً من الأخذ في الاعتبار الرأي المخالف. هناك من يقرر دون معرفة كاملة ودون تفكير ملي، وعندما يظهر الخطأ بعد ذلك يكون التبرير أو إلقاء اللوم على الآخرين، ولدينا مشروع توشكي نموذجا لذلك.
وعلى ذلك نلخص موقف اللجنة فيما يلي:
1 - التأكيد على الأهمية القصوى لأسلوب صنع القرار، فالقرار الصحيح فيما يتعلق بمفاعلات نووية لتوليد الطاقة يتطلب مناقشات واسعة بين المتخصصين والمهتمين يليها حوارات مفتوحة تسمح بأوسع نقاش سياسي حول المشروع وأهدافه.
2 - التأييد الحازم لتمكين مصر من السلاح النووي مادام عدونا يمتلك ترسانة نووية، ولكننا لا نعتقد أن هذا الهدف من أوليات نظام "كامب دافيد".
3 - السعي إلى خطة متكاملة للتنمية واستراتيجية بعيدة المدى لتوفير الطاقة اللازمة لنهضة صناعية كبيرة، الأمر الذي يتطلب نظاما سياسيا يتمتع بحد أدنى من الاستقلال والديمقراطية.
4 - المناداة بالاستغلال الأمثل للطاقة المتاحة مما يتطلب الحد من تصدير البترول والغاز الطبيعي، وترشيد الاستهلاك الحالي.
5 - ضرورة استخدام البترول والغاز الطبيعي لإنشاء صناعات كيمائية ودوائية عديدة، في إطار خطة تنمية وطنية طموحة.
6 - إن أي نهضة صناعية حقيقية لا بد وأن تستند إلى تعليم ممتاز وقاعدة بحوث علمية وطنية ذات مستوى عال تغذي هذه المشاريع بالكفاءات اللازمة والقادرة على الدخول الفعلي في مجالات البحث المتقدمة وفي مجالات مختارة بناء علي تخطيط واع وذكي.
7 - إن ظروف الإعلان توحي بأن مما ورائها إعطاء النظام مظهر ما سمي "الدخول في العصر النووي" لاحتواء النقد الجماهيري الواسع بالتقاعس المصري والعربي عموما وفي هذا المجال خاصة أمام التحدي الإيراني والنجاحات التي حققها برنامجه النووي، أضف إلي ذلك استثمار الإعلان لمصلحة نجل الرئيس الطامح في وراثة منصب الرئاسة.
8 - التحذير من أن يكون اقتناء المفاعلات هو جزء من المشاريع التي تقع في إطار "مشروع الشرق الأوسط الكبير" أو "الجديد" والتي تعمق فضلا عن ذلك الانخراط في التقسيم الدولي الغير متكافئ للعمل الاقتصادي والذي يجعل من مصر منتجة للطاقة الكهربائية لتغذية الأسواق الخارجية بما في ذلك "الإسرائيلية"، بديلا عن المشاريع الداخلية الموجهة لبناء صرح صناعي متكامل.
9 - إن التطورات الهائلة في مجال الطاقة الشمسية المولدة للكهرباء تنبئ بأن هناك احتمالات جيدة بأنها ستكون اقتصادية خصوصا إذا ضخت الأموال اللازمة، وحتى إذا نشأت ضرورة حقيقية للمفاعلات النووية لتوليد الطاقة فلا بد من توفير الشروط المطلوبة من حسن اختيار الموقع والتأكد من درجة عالية من الأمان والكفاءات المطلوبة ووجود حد أدنى من الاستقلال السياسي وحرية القرار الوطني والتمكن التكنولوجي حتى لا نقع في المزيد من التبعية.
إن الخيار النووي لتوليد الطاقة الكهربائية ليس الخيار الوحيد أو الأفضل اقتصاديا وأمنيا واستراتيجيا وأن اقتناء مفاعلات نووية لتوليد الكهرباء بموافقة أمريكية و"إسرائيلية" وفي الإطار السياسي والاقتصادي والاجتماعي القائم لا يمكن أن يكون مقبولا أو رشيدا بل نعتبره خطوة جديدة على طريق التبعية والتطبيع.
اللجنة المصرية لمناهضة الاستعمار والصهيونية
29 أكتوبر 2006
تحت التسميات: | 0 تعليقات »

0 التعليقات:

إرسال تعليق

تعليقك يشجعنى على الاستمرار فلا تبخل.

اشترك ليصلك الجديد

Enter your email address:

Delivered by FeedBurner

اخر المواضيع


القرأن الكريم

TvQuran

���� ������'s Fan Box

غيبوبة جنون

بلغات اخرى

English French German Spain Italian Dutch

Russian Portuguese Japanese Korean Arabic Chinese Simplified
by : ghyboba

�����

Blog Archive

اخر التعليقات