كان هيرودوت رومانسيًا عندما أطلق صيحته الشهيرة «مصر هبة النيل»، تلك الصيحة التي تشبثنا بها بقوة مثلما تشبثت نبيلة السيد بـ «عريس يا أماي»، وأصبحت من مقررات قصائد الفخر الكاذب التي نرددها ببلاهة كل صباح.
«مصر هبة النيل» أي أننا «وهيه مصر إيه غيرنا إحنا وشوية حاجات فوق بعض» أبناء هذا النيل نشبهه كثيرًا.
النيل لونه رمادي وهو لون منافق ليس له موقف محدد ويحاول أن يرضي قطبي الألوان الأبيض والأسود، لون ليس له طعم بخلاف لون البحر الأزرق الموصوف تأمله كعلاج للأعصاب وملهم للروح، نحن شعب رمادي بلا موقف واضح، مهادن يسهل حكمه وتسهل السيطرة عليه بأمين شرطة، منافق لمن هم أعلي منه سلطة أو ثروة أو شهرة، منافق حتي للنيل نفسه بإطلاق اسم الورد علي النباتات التي أجمع العلماء علي كونها ضارة «ورد النيل».
النيل يجري في مقاسات ثابتة ومحددة سلفًا كعبد ذليل، بلا رغبة في المغامرة أو الثورة أو التمرد علي الضفتين اللتين تحكمانه منذ قرون، يلتف المجري فيلتف معه النيل بلا تردد، نحن أيضًا لا نثور علي الضفاف التي تعوق حركتنا ولا تسمح لنا باكتشاف مناطق جديدة حتي تكلسنا وأصبحنا غير قادرين علي التغيير بالضبط مثلما كان النيل عصيًا علي أن يغير اتجاهه ليدخل إلي توشكي لأنه ببساطة فقد طموحه.
النيل إيقاعه بطيء، تعلمنا منه أن «الدنيا ماطارتش»، والحقيقة أنها تطير من بين أيدينا بالتدريج لأننا أصبحنا بحكم جيرتنا للنيل لا نصلح لمواكبة الإيقاع الذي يسير به العالم، البطء سمتنا المميزة فوق كوبري أكتوبر وعلي ملعب استاد القاهرة وفي ورش النجارين في دمياط وفي إجراءات التقاضي وفي تنفيذ الوعود الحكومية وفي العثور علي فرصة عمل وفي الحصول علي قرض وفي وصول الإسعاف والنجدة والمطافيء، لكن للأمانة هناك أشياء سريعة عندك مثلاً خدمة التوصيل من ماكدونالدز وموكب رئيس الوزراء.
النيل يسير ككيان واحد حتي يتفرع في القناطر إلي فرعي رشيد ودمياط، كذلك نحن نظل نتحدث عن أننا كيان واحد ونفخر ونهلل لهذه الصفة حتي نصل إلي قناطر ما فنتفرع إلي فرع مسلم وفرع مسيحي علي ضفاف كل منهما هناك عدد من الجرحي والغرقي لم تنقذهم أسطورة «عاش الهلال مع الصليب» من الأذي، نتفرع إلي فرع أهلاوي وآخر زملكاوي لم يستطع المنتخب أن يوحدهما أبدًا وسقط علي ضفافهما من هو جريح ومن أشعلوا فيه النار حيًّا، نتفرع إلي متأسلم ومتعلمن، إلي غني يسحب من رصيد الوطن الذي بات عاجزًا عن الإنفاق علي الفرع الآخر فرع الفقراء.
هيرودوت الرومانسي كان يقصد بجملته هذه الفراعنة الذين بنوا حضارتهم بتقديس النيل واستفادوا من وجودهم إلي جواره، أيام الاحتفال بعيد وفاء النيل الذي أُلغي لأنه لم يعد هناك وفاء علي أيدينا نحن الذين لم نستفد من النيل إلا برفع أسعار الشقق المطلة عليه، تلك الشقق التي سرعان ما سينخفض سعرها عندما تحكم إثيوبيا سيطرتها علي المنابع فيصبح ماء النيل غورًا وساعتها ستستوي أسعار الشقق المطلة عليه مع أسعار الشقق المطلة علي ترعة الزمر.
النيل ملوث مثلنا تمامًا، تجري في دمائنا وفي مياهه المجاري نفسها، ومثلما قبل النيل إهانة التلوث والمخلفات قبلناها نحن أيضًا، النيل قبلة المنتحرين وكذلك الحياة في مصر في هذه الأيام، نشبه النيل حتي في فخرنا بأشياء لا دخل لنا بها، فالنيل هو أطول أنهار العالم وهو مجد لم يصنعه النيل بنفسه، ونحن أبناء حضارة 7000 سنة وهي جملة خاطئة تحتاج دومًا لتصحيح فالحقيقة أننا شعب بينه وبين الحضارة مسيرة 7000 سنة.
أما مقولة: «إن اللي يشرب من النيل لازم يرجع له تاني» فهي أكذوبة تشبه تمامًا أكذوبة أن المصريين «شعب دمه خفيف»




0 التعليقات:
إرسال تعليق
تعليقك يشجعنى على الاستمرار فلا تبخل.